وراء هذا المنتخب الأولمبي مشيت لمسافات طويلة، لم أعد أذكرها، ما بين القطارات والسيارات طويت فرنسا صعودا وهبوطا، وفي الخاطر يسكن حلم، وفي كل خطوة ينطق أمل، بأن وراء هام السحاب يسكن هلال.
كنت في طريقي إلى باريس، برفقة الوفد الإعلامي في نفس اليوم الذي كان فيه المنتخب الأولمبي يواجه منتخب الأرجنتين، إستعجلنا وصولنا إلى فندق الإقامة، لعلنا نختلس ولو من بعيد نظرة لهذا الفريق الذي قدم نفسه في مباراة الأرجنتين هناك بملعب جوفري غيشار بسانت إيتيان، على أنه ما جاء إلى هذا الأولمبياد ليضع بصمة الحضور ويقفل عائدا إلى عرينه.
من تلك المباراة التي امتدت لأربع ساعات، بدأنا في مطالعة الحدوثة المغربية، ومن الفوز بها راج العبق بين الآنام وفاح عطر الحلم.
كانت السقطة أمام أوكرانيا بنفس قلعة الخضر بسانت إيتيان التي وصلتها قبل نحو ساعتين من بداية المباراة، وجعا ينبئ بمولد القمر، فمثل هذه الهزائم التي تأتي في وقتها، تكون درسا مستفادا، وتأكد ذلك والأسود يهزمون أسود الرافدين بثلاثية في أرينا ريفيرا بمدينة نيس هناك في الكوت دازور، أما أنا فقد كان وجعي بعدها شكلا آخر، وقد تعطلت القطارات العائدة لباريس على حين غرة.
لا عليكم مني ولا من أوجاعي، فأن تكون الثلاثية أمام العراق عنوانا لتأهل تاريخي للدور الثاني في صدارة المجموعة، هو تشكل لنصف القمر، كيف لا والأسود أنهوا انتظارا دام 52 سنة لمعادلة إنجاز تخطي الدور الأول أولمبيا والذي كان سنة 1972 بميونيخ مع جيل أحمد فرس.
منهكا وصلت إلى باريس، لأدعى على عجل للذهاب إلى حديقة الأمراء، فهناك ستكتب صفحة جديدة للتاريخ، كان أسود الأطلس جاهزون لانتقاء أحرفها وعلاماتها، فولد النص الإعجازي، مبهرا، وقال التاريح وهو أصدق ما في الكتب، أن المنتخب المغربي حرر وثيقة الصعود لأول مرة إلى المربع الذهبي الأولمبي، بفوز عريض على الولايات المتحدة الأمريكية، قوامه أربعة أهداف، قال الناس بعدها، هذا المنتخب يستحق مكانا له في النهائي الحلم، حتى لو كان خصم المباراة المطلة على النهائي منتخب إسباني به رغبة مجنونة للأخذ بثأر لا هو قديم ولا هو جديد.
تجدد سفرنا إلى الجنوب الفرنسي، وهناك في الملعب الأسطوري لمارسيليا، الفيلودروم، كانت لنا موقعة مع الإسبان، تقدمنا في جولتها الأولى بهدف الغوليادور رحيمي، وفي الجولة الثانية لدغنا من جحر الجزئيات الصغيرة التي لا نراها بالعين المجردة، وكان السقوط من برج عال، حجبت الهزيمة أمام الماتادور عنا شمس النهائي، ومع ذلك ظل ضوء القمر ساكنا في المدى القريب، وكان على أسود الأطلس أن يستجمعوا ما بهم من صبر وجلد، لأن التاريخ مع ذلك ما زال واقفا على بابهم.
هذه المرة كان علي أن أتحرك لجنوب غرب باريس، لمدينة نانط على مسافة 342كلم، هناك في ملعب لابوجوار الذي كان ذات وقت نجمه وأسطورته، هو الراحل هنري ميشيل المدرب السابق للفريق الوطني، وهدافه التاريخي هو البوسني وحيد خاليلودزيتش، وما كان يجب أن يسرح الفكر وراء الخيال بعيدا ليحدد موقع السفر الختامي، فإما أن يضع الأسود بصمتهم ويحضنوا القمر ويخلدوا في ذاكرة الأولمبياد بميدالية برونزية، وإما أن نربت على أكتافهم عند الخسارة ويلتهمنا بعدها الحزن.
إلى «لابوجوار» تحولت الأنظار للنهائي البرونزي بين المغرب ومصر، وما عشناه في المباريات الخمس شيء، وما سنعيشه بنانط التي توافد عليها آلاف المغاربة كحال كل مبارياتهم، شيء آخر.
هنا سيكتب أسود الأطلس الخاتمة الأجمل لحدوثة مغربية سيذكرها أولمبياد باريس كلما قلب صفحاته، سيفوزون بسداسية نظيفة وسيقدمون عرضا فخما وفاخرا، ليعودوا إلى باريس، إلى الحديقة التي هزموا فيها برباعية أبناء العم يام، لتعلق على أعناقهم ميدالية برونزية هي الأولى لكرة القدم الوطنية، فما أجملها من نهاية وما أروعها من خاتمة لسفر الأسود الأولمبي ولسفري إلى 5 مدن فرنسية.