كثير مما حدسته في زاوية عدد الخميس الماضي وأنا أقدم لانتخابات الرئيس الجديد للفيفا تحقق وصدق، فقد إقتصر الصراع الأكبر للوصول إلى منصب الرئيس على الإيطالي جياني إينفانتينو والبحريني الشيخ سلمان بن إبراهيم، ومع الخروج المعلن والمبرمج للجنوب إفريقي طوكيو سيكسويل، لعب المرشحان الأخران وهما الأردني الأمير علي بن الحسين والفرنسي جيروم شامبان دور الأرنب بنسب متفاوتة، وفوت وجود عربيين في السباق النهائي فرصة قد لا تعوض في أن يعتلي عربي منصب رئيس الإتحاد الدولي لكرة القدم.
حضرت المؤشرات التي تحدثنا عنها كاملة غير منقوصة لتصمم المشهد الختامي لسباق ظاهره ديموقراطي وباطنه فيه كثير من الغلو السياسي، فقد أعلن جياني إينفانتينو مرشح أوروبا بناء على يقين فكري وسياسي قبل الرياضي، رئيسا جديدا للمؤسسة الأغنى والأكثر إثارة للجدل والأقوى تأثيرا في محيط الرياضة العالمية.
قطعا لا يمكننا كعرب أن نبدي حزنا وألما ولا أن ننصب من جديد حائطا للمبكى، لنندب حظنا العاثر وفرصة وصول شخصية رياضية عربية لرئاسة الفيفا تتبخر في هواء زوريخ الساخن، فما فعله العرب بكونغرس الفيفا هو نسخة طبق الأصل مما يحترفونه ويدمنونه منذ زمن طويل، عدم الإتفاق ونسف الوفاق وإبراز الشقاق، وإليكم الوصفة الكاملة لهذه الصرعة الجديدة التي إبتدعها العرب هناك بزوريخ ليعيدوا على المسامع المحطمة بطنين المآسي مقولة «إتفق العرب على ألا يتفقوا».
قلت وقالت قبلي كل المؤشرات المستوحاة من الرصد للوقائع والنوايا والمخططات، أنه برغم وجود خمسة متنافسين على رئاسة الفيفا كثيرهم لم يحلم يوما أن يقف على خط السباق بل أكثرهم لا يملك لا الرصيد الرياضي ولا الحذاقة الفكرية ولا الكاريزما لقيادة مؤسسة تعيش فقرا في النزاهة والشفافية وتحتاج إلى من يسعفها بمحلول المصداقية، برغم وجود الخمسة إلا أن المعنيين الصريحين بالمنافسة على منصب الرئيس هما السويسري إينفانتينو والبحريني الشيخ سلمان، ومن يقرأ المشهد جيدا سيجد أن حظوظ البحريني الشيخ سلمان في الوصول إلى منصب الفيفا متمتعا بالإجماع الحاصل حول شخصه من الإتحاد الأسيوي والمساندة المعلنة له من قبل الإتحاد الإفريقي لكرة القدم ومتحديا كل التربيطات السياسية و«الأولترا رياضية» التي تمت في كواليس الإتحادات القارية الأخرى، ترتبط أساسا بالموقف الذي سيتخذه الأمير علي بن الحسين قبل بداية الإنتخابات أو حتى بعد المرور المتوقع للدور الثاني والحاسم.
كانت هناك حاجة إذا لتوضيح لبس إستراتيجي بدا وكأن تركه على الغارب، سيربك الحسابات وسيؤثر سلبا على حظوظ الشيخ سلمان بن إبراهيم، فإصرار الأمير علي بن الحسين على الإستمرار في المنافسة برغم علمه المسبق على أن حظوظه في الوصول إلى منصب الرئيس قليلة أو شبه منعدمة، ألبسه ثوب جوكر السباق الذي سيلعب لصالح إينفانتينو لا لصالح الشيخ سلمان، ولذلك أسباب ودواعي يتداخل فيه الذاتي والموضوعي، فالأمير علي بن الحسين كان يقف من الشيخ سلمان ومن جياني إينفانتينو على حد سواء موقف الموجوع والمغدور به، كيف ذلك؟
منذ اليوم الذي قرر فيه بلاتر التنحي عن منصب الرئيس الذي ناله في انتخابات ماي من السنة الماضية، بوازع من زلزال الفساد الذي ضرب الفيفا وأسقط الكثير من رموز عهده، خرج الأمير علي ليصف ترشيح ميشيل بلاتيني لمنصب الرئيس بالخيانة، فقد تهيأ له أن القارة الأوروبية التي ساندته بشكل مطلق إبان منافسته لبلاتر قبل تسعة أشهر، ستدفع به مجددا للسباق نحو الرئاسة وقد خلا المنصب وخلا الجو من ديناصور كبير إسمه بلاتر، وكان للأمير علي كل الحق في ذلك، فكيف لا يجرؤ بلاتيني على منافسة بلاتر وينيب عنه في الصراع على الرئاسة الأمير علي، وعندما يصبح المنصب شاغرا ويتوارى بلاتر كليا عن المشهد الفيفاوي، يترشح بلاتيني مدعوما من قارته الأوروبية، قبل أن تعصف به ورقة فساد أخرجها بلاتر من جيبه الصغير كانت عليه وعلى من تصوره عدوا لها، فانتهى بهما الأمر إلى عقوبة توقيف قوامها ثمان سنوات قلصت لست، لتلجأ أوروبا إلى الخيار البديل وترشح أمين عام إتحادها لكرة القدم السويسري إينفاتينو.
وعلى قدر طعم الخيانة الذي ذاقه الأمير علي بن الحسين من أوروبا التي ساندته في يوم ورمت به خارجا في اليوم الموالي، فإن الأمير علي شعر مرتين بما يشبه غدر وظلم ذوي القربى، مرة أولى عندما لم يسانده الإتحاد الأسيوي وانحاز علنا لبلاتر، والمرة الثانية عندما قرر دخول السباق نحو الرئاسة بالشيخ سلمان بن إبراهيم، ومع وجود الوجعين تحول الأمير علي بن الحسين إلى جوكر السباق، فمع يقينه الكامل أنه لن يحصد ذات الأصوات التي تحصل عليها يوم نافس بلاتر لعدم وجود أي كثلة قارية إلى جانبه، كان موقنا أن له دورا سيلعبه في السباق حتى لو لم يكن صاحب حظوظ وافرة للفوز به لوجود تربيطات مسبقة وتكتلات معلنة، وقد كانت ورقة الأمير علي حاسمة في تسمية السويسري جياني إينفانتينو رئيسا للفيفا.
جاء الدور الأول متطابقا تماما مع ما حدسناه، فقد أبتعد إينفانتينو (88 صوتا) بثلاثة أصوات عن الشيخ سلمان، وجاء بعيدا في المرتبة الثالثة الأمير علي بـ 27 صوتا ثم في مركز رابع وأخير الفرنسي جيروم شامبان بـ 7 أصوات، فيما آثر الجنوب إفريقي طوكيو سيكسويل الإنسحاب واضعا الأصوات التي كانت له وهي قليلة على كل حال في جيب إينفانتينو.
وبالمرور إلى الدور الثاني والحاسم، حيث ينتفي الفوز بالأغلبية النسبية ويحتاج الفائز إلى نصف عدد المصوتين زائد واحد، كان لا بد وأن تتضح اللعبة أكثر، وفي مشهد كهذا يكون من الطبيعي أن تتجه الأنظار إلى الأصوات التي نالها كل من الأمير علي والفرنسي شامبان، لأي مرشح من المعنيين الأوليين بالسباق ستذهب، لإينفانتينو أم للشيخ سلمان؟
لقد ذهبت كلها أو جلها للسويسري إينفانتينو، فبينما لم تزد أصوات الشيخ سلمان في الدور الثاني إلا بثلاثة لتصبح 88، قفزت أصوات جياني إينفانتينو إلى 115 صوتا أي بزيادة 27 صوتا ما يعني أن معسكر الأمير علي بكتلة أصوات وصلت إلى 23 صوتا على اعتبار أن ما تحصل عليه الأمير علي في الدور الثاني هو أربعة أصوات، هو الذي تحكم بشكل كبير في حسم الموقعة الإنتخابية، وهو من قاد إينفانتينو لمنصب الرئيس بالنظر إلى أن الأصوات السبعة التي خرجت من عباءة جيروم شامبان لم تكن تكفيه للوصول إلى النسبة التي تخول الفوز بالمنصب.
ما كان إينفانتينو يحلم وهو يدخل السباق بديلا للأسطورة المعاقبة بلاتيني بأن يصل بهذه السرعة المفرطة إلى منصب رئيس الفيفا وهو من كان بالكاد يضع في الأفق القريب حلم الوصول إلى رئاسة الإتحاد الأوروبي لكرة القدم، وما كان علينا نحن العرب أن نتوهم بأننا سنتفق، والحال أننا في اللغة والدين والتاريخ نلتقي وفي نصرة بعضنا البعض نفترق.