من اللحظة التي أبلغتنا فيها اللجنة المنظمة لدورة باريس الأولمبية، أنها ستكسر عادة إقامة حفل الإفتتاح الذي هو واحد من أجمل وأرقى طقوس الدورات الأولمبية الحديثة، في الفضاء المغلق، أي في الملعب الرئيسي، وستنقله للفضاء المفتوح، ليقام على ضفاف نهر السين الذي يخترق باريس بالطول والعرض، ونحن نسائل متخيلنا وما تراكم في صور عن الإعجاز التعبيري الذي رافق عديد الحفلات الإفتتاحية، وهي تأخذ أبعادا متجددة في مجالات الإبداع.
ومع التكتم الشديد الذي اشتغلت به اللجنة المنظمة لأولمبياد فرنسا، في الإعداد لهذا الحفل الإستثنائي في جغرافيته وفي مضمونه التعبيري ورسائله الإنسانية، ما كان من الممكن مهما بلغت براعة التخيل، أن نحدس لهذا الحفل مساحة للنبوغ، لذلك كانت سيول الدهشة التي رمانا بها العرض لمدة قاربت الثلاث ساعات والنصف، أكبر بكثير من أن يصمد أمامها العقل.
قررت فرنسا أن يكون حفل افتتاح النسخة الثالثة للأولمبياد الذي تستضيفه باريس للمرة الثالثة في تاريخها، حفلا عائما، يستحم بمياه نهر السين، ويغوص عميقا في تجاويف تاريخ البشرية ليصعد بدرر خالدة وبأساطير في الحكي المكتوب والمنطوق والمرسوم على جدارات الزمن، فكانت الرحلة خلابة ومدهشة إلى كثير من مرافئ الحضارة الإنسانية، إلى ألعاب البشرية التي تجمعها على الحب والوحدة والشغف.
ولأنها باريس، عاصمة الأناقة والأضواء ومستودع الخالدات في الفكر الإنساني، من أدب وفلسفة وفن وعلوم، فقد كان من الممكن أن نتوقع تراجيديا وميلودراما الحكي، لكن ما كان مبهرا هو التسلسل الرائع الذي طبع اللوحات والفقرات التي تصمم هنا وهناك، مستدعية اللحظات المبهرة في تاريخ البشرية الرياضي والحضاري منه على حد سواء، ومستشرفة المستقبل الجميل الذي ينادي الرياضة، لتكون صمام أمانه في رحلة الوجع والتوتر وقانون الغاب، لذلك أنطق هذا الحفل الخرافي كل ما كان صامتا في يومياتنا، الحاجة لماضينا الجميل ليكون لشباب اليوم ملهما، وشعرنا عند لحظات السرد عبر الصورة والصوت وهما يتماهيان بشكل رائع، أننا بصدد قصة مكتوبة بأحرف من ذهب تنسدل أمامنا في مشاهد جذابة، يؤطرها رباط موسيقي منتقى بعناية فائقة، ليحصد العرض في عمومه على علامة الفخامة.
وبينما كانت الكثير من حفلات الإفتتاح تراهن على اشتعال الضوء وصخب الصوت لتحفر عميقا في السوريالية، لمتخيل بعيد، وتخلف لدينا الإنبهار الخادع، جاء حفل إفتتاح أولمبياد باريس متحركا عبر تواشيح وإيقاعات جعلتنا جميعا نسافر بكثير من الفرح والشغف وحب الفضول إلى لوحات أبدعت كثيرا في جعل العرض خلابا ومدهشا، عرض قالت من خلاله الرياضة بصوت عال جدا، يمكننا جميعا أن نصنع عالما جميلا، فيه نتساكن ونتجاور ونتحاب رغم إختلافنا، تماما كما أراد الله من الإنسان أن يعمر هذه الأرض.
شكرا لباريس، أنها أعطت لحفل افتتاح الأولمبياد صبغة الواقعية التي تسحر ببراغماتيتها وبممكنات الرياضة لصناعة الجمال ولبناء عالم أفضل.