خرجت للتو من تغطية مشبعة برطوبة وتضارب المشاعر لدورة الألعاب الأولمبية التي استضافتها باريس، وهي أول نسخة لألعاب زمن ما بعد كورونا التي جعلت نسخة طوكيو قبل ثلاث سنوات تبدو كمومياء، فهناك في باريس انتقم الناس من كهوف الصمت التي أدخلوا إليها، قيدت حركتهم، فأقبلوا بكثافة قياسية على كل المسابقات، حتى لا تكاد تخلو أي منها من قياسية المشاهدة.

غير قابل حتى للجدل، القول بأن أهل فرنسا يعشقون كل الرياضات، يستمتعون بمشاهدة ما يعرفون وما لا يعرفون، لكن في قوة الجذب التي تمتعت بها دورة باريس ما يؤكد أن الرياضة هي أرقى تعبيرات الإنسان عن كينونته وعن إنسانيته.

ولأنها ألعاب كونية تحفل بالكثير من القيم التي عادة ما تصدرها الرياضة لعالم بات يتحلل من قيمه الإنسانية، فقد خرجت منها مختلفا عني عندما دخلتها، والإختلاف هو في جرعات التجربة التي لا تستطيع أن تستوعبها الخبرة مهما كانت في اتساع البحر.

طبعا هذه النسخة من الألعاب الأولمبية التي حضرتها بباريس وما حولها، مختلفة كليا عن نسخة لندن التي حضرتها قبل إثني عشرة سنة، والإختلاف هو في درجة اتساع كل الحواس للقبض على كافة التفاصيل، في اختلاف التضاريس ومحددات السفر إلى الأحداث التي واكبتها عينيا أو تابعتها على شاشة التلفزة، وما كان ممكنا أن أشاهد جميعها بالعين المجردة، وما كان ممكنا أن أشاهد كل اللعبات وهي مبثوثة في الشطآن كالفيروز.

متعبة وممتعة هذه الملاحقة بحس وعين الصحفي للألعاب الأولمبية، وشاسعة وثرية هذه القيم التي لا يمكن أن تجتمع في بطولة كونية، كما تجتمع في الألعاب الأولمبية، وجازم أنا في القول وقد غادرت للتو المحيط الصاخب للألعاب الأولمبية، أن الصحافي الذي يعتزم الحضور لتغطية هذه الألعاب أن يستعد ويتربص لها كما يستعد الأبطال لخوض سباقات شرسة وضارية، فقد يجد الواحد بيننا عندما تنتهي الألعاب أنه قطع من المسافات، وركب من القطارات، وسابق الساعة الأولمبية في دورانها المجنون، أكثر مما فعل في ردح من عمره.

لا أقصد، ما يمكن أن يحرره الواحد منا من قصاصات وقصص عن عرض يتكرر لتجارب إنسانية ملهمة، فذاك من طابع ماراطونية المهنة التي ارتضيناها لأنفسنا، ولكن القصد هو الإستعداد الذهني الذي يجب أن نكون عليه، لكي لا نحصي للأسفار عددا وهي ترتبط ببعضها، تماما كما يرميك قطار لقطار، وهنا يلتقي الشغف بمتعة الرصد والمتابعة، لكي تكتمل حصرية المواكبة الصحفية للألعاب الأولمبية.
فإن استعد الرياضيون بما تفرضه المستويات العليا التي تحكم الألعاب الأولمبية، استعد الصحافيون بدنيا وذهنيا لملاحقة أحداث رياضية تزدحم بها الأجندة، ولا يمكن أن يستسيغ الواحد منا أن يخرج من الأولمبياد وقد رأى من كوكبها الجميل جزء صغيرا.
هذه هي الألعاب الأولمبية التي إن واكبتها إعلاميا وأنت شيخ، خرجت منها وكأنك صغرت بعشر سنوات..
إحساس أرجو أن يصل إلى من يهمهم الأمر!!