لا أستطيع، وأنا أنبش في دفاتر ودية الفريق الوطني أمام «الظباء السوداء» لأنغولا، في تلك الأمسية الرمضانية الجميلة، أن أعرض عن الأجواء الإحتفالية التي أحاطت بالمباراة، من التوافد القياسي للجماهير على الملعب الكبير لأكادير، إلى الإحتفالية التي صدرتها هذه الجماهير من المدرجات، وجعلت إبراهيم دياز قبل الآخرين يقف حيالها مبهورا حينا ومستمتعا حينا آخر، هو من تعود على أجواء محمية الريال سانتياغو برنابيو.
ما أعطانا الحضور القياسي للجماهير ولا حماسها المنقطع النظير، الشعور بأن هذا الفريق الوطني الذي جاء إلى الملعب الكبير لأكادير لملاقاة أنغولا وديا، هو نفسه الذي غادر قبل 50 يوما كوت ديفوار يجر ذيول الخيبة، بعد خروجه صاغرا من الدور ثمن النهائي لكأس إفريقيا للأمم بالخسارة أمام جنوب إفريقيا.
ما عاقبت هذه الجماهير الأسود على سقطتهم تلك، بمقاطعة المباراة، وما انكسرت للأسود شوكة بعد لدغة «الأولاد» جراء هذا الشوق العاطفي الذي نقلته الجماهير للاعبين.
ما زلت أذكر أن الجماهير المغربية، بعد خروج المنتخب المغربي سنة 1988 من نصف نهائي نسخة كأس إفريقيا للأمم التي نظمت بالمغرب على يد الأسود غير المروضة للكاميرون، لم تبتلع المرارة ولم تهضم الخيبة، فاعتزلت مشاهدة المباريات الوطنية قبل الدولية، وجرت كثير من مباريات البطولة بعد ذاك ال«كان الحزين»، أمام مدرجات شبه فارغة، وتكرر هذا المشهد بعد ذلك كثيرا، مع تواتر الإقصاءات من كأس إفريقيا وأحيانا من الدور الأول، فلماذا تغير الأمر هذه المرة؟
لذلك سببان، أولهما أن الجماهير المغربية لم تنس للفريق الوطني ملحمته التاريخية بل والأنطولوجية في مونديال قطر، وهو يكتب التاريخ بوصوله للدور نصف النهائي، بدليل أن أخبار الأسود في الفضاء الأزرق لا تعلو عليها أخبار أخرى، فهي تستهلك بشكل مثير للدهشة.
أما ثاني السببين، فهو أن حول الفريق الوطني، تشكل مفهوم العائلة، بقيمه الرفيعة، وأهمها إطلاقا أن لا يترك الفريق الوطني وحيدا بلا دعم ولا سند في الضراء كما في السراء، في الأفراح كما في الأتراح، وعندما نقيس درجة الفرح الجماعي الذي يتملك المغاربة كلما حل موعد مباراة للأسود، نجد أنها ارتقت للمستويات التي تقول أن الجماهير باتت تعرف ما معنى المناصرة، وما معنى أن تكون في صلب صناعة الإنجازات.
ولأنه لهذا الفرح الجماعي الكثير من الأشكال التي يمكن أن يعبر بها عن نفسه، فإن الفريق الوطني من تلقاء نفسه، يشعر فعليا بمسؤوليته المباشرة في صناعة السعادة.
لا أحد يمكن أن يصادر حرية الجماهير في التعبير عن رفضها للرداءة، والإدلاء بدلوها بخصوص اللاعبين وطريقة اللعب، وما حدث أبدا أن نطقت هذه الجماهير، بخاصة «المسؤولة» منها، التي «تبني ولا تهدم» والتي «تغضب ولا تحقد» عن فراغ أو عن هوى، لطالما أنها تتحدث بلغة القلب، لذلك عندما تهب هذه الجماهير، حتى وهي موجوعة، لمناصرة ودعم الفريق الوطني مهما كانت الظروف، فإنها تعبر عن مفهوم العائلة الذي فتشنا عنه طويلا، وأكدت مباراة أنغولا أننا وجدناه، يبقى فقط أن تتظافر جهود كل الفعاليات المرتبطة بالأسود، لكي تصنع لهذه الجماهير لحظة السعادة التي تبحث عنها وسط أكوام البؤس والشقاء.