مفزوعا ومحبطا من الذي كان يشاهده وينقله للذين كانوا يتابعون تعليقه على ما سمي تجاوزا قمة الجولة الثانية للبطولة الإحترافية والتي جمعت الجيش بالبطل المغرب التطواني بملعب الفتح، لم يترك الزميل عبد الحق الشراط عند وصفه للمباراة على القناة الأولى عبارة تقديح إلا ووظفها للبرهنة على أن ما كنا نشاهده فعلا يجلب العار ويثير التقزز.
قد يكون من فرط الإحباط مما كان يشاهده ونشاهده معه، غالى أحيانا في رسم دوائر القلق وفي تعتيم الصورة وفي هجاء المحتوى التقني للمباراة، ولكن ما كان من رعونة في الأداء الجماعي ومن إبتذال في نسج منظومة اللعب ومن شرود كامل للذهن ومن جمل تكتيكية مبتورة ومن إهدار بشع لفرص التهديف السانحة للتسجيل، جلب لنا جميعا الرعب مما كنا نشاهد، إلا أن هذا الشدوه والإستغراب سرعان ما يزولان عندما نسائل أنفسنا بكامل الموضوعية:
قياسا مع ماذا ترعبنا هذه الرداءة؟ وبالمقارنة مع أي صورة فنية كونتها عن نفسها البطولة الإحترافية نزن هذا الإخفاق التقني الجماعي في مباراة الجيش والمغرب التطواني؟ واعتمادا على أي مرجعية تقنية سنقول بأن المباراة شذت عن القاعدة وخيبت الظنون؟
يبطل العجب ولا يصبح هناك أي داع للصراخ والإستغاثة عندما نعيد شريط كل مباريات البطولة الإحترافية في أعوامها الأخيرة، لأننا سنقف على حقيقة أن المستوى تدنى بصورة قياسية وجالبة للقلق ولأننا سنعترف على أنفسنا أن بطولتنا تنزل عميقا إلى درك الرداءة، فلا يصبح هناك من ملجأ عندنا جميعا جماهير ومتابعين وإعلاميين إلا الهروب بشكل نوستالجي إلى ما كان عليه الزمن الجميل من بهاء الصورة ومن نقاوة الأداء ومن إبداع فني مع أن ما كان بين الأمس الجميل واليوم القبيح فوارق كالجبال لا تصح معها أي مقارنة، فما إحتكمت عليه البطولة الوطنية في عقود خلت بأنديتها ولاعبيها من إمكانيات مادية ولوجيستيكية لا يصل إلى عشر ما هو متاح اليوم، فلماذا تراجعت البطولة الوطنية بهذه الصورة المهولة؟
هو سؤال جوهري حضر مشتتا في الأذهان، رمي به كزبد البحر الذي يذهب جفاء في بحور النقاش من دون أن ينفع الناس، وأبدا لم يحضر في رصد تقني ليشكل منطلقا لغوص عميق يبحث من خلاله ذوو الشأن التقني عن مسببات وعن دواعي، ويقترحون له إجابات شافية في شكل إستراتيجية توقف توغل البطولة الوطنية في مستنقع الرداءة. لنقل أن ما نقف عليه اليوم مستغربين وحزينين ومفزوعين من تدن للأداء ومن رعونة في التركيب التكتيكي ومن خروج صريح عن النص الإبداعي ومن شرود كامل عن ضوابط كرة القدم الحديثة، سببه جناية أرتكبت منذ عقدين من الزمن، فقد توهمنا أن أساس المشروع الإحترافي هو هيكلة النوادي وتعزيز البنيات التحتية وتحرير اللاعبين من عهود الإقطاع، وتخبطنا في بلورة هذا المشروع فتقاذفتنا التسميات وتفرقت بنا عند التنفيذ السبل، وأبدا لم ينتبه أحد إلى أن أساس الثورة على الهواية هو إدخال كرة القدم الوطنية إلى عهد التكوين العلمي بفرض مراكز للتكوين تقوم مقام ملاعب الأحياء التي كانت منجما في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي والتي أجهضها العمران في كثير من المدن المغربية.
ما تتداوله السوق المغربية اليوم من لاعبين تحصل للأسف حولهم المزايدات والمضاربات ويسعرون بأثمنة لا يستحقون حتى عشرها يقول بكساد البضاعة وبضعف الحصاد وبالبعد الكامل عن مواصفات لاعب كرة القدم الحديث، وليس من سبب لضعف وهزالة المنتوج سوى أننا زرعنا الرداءة منذ زمن بعيد، لقد إبتعدنا كليا عن روح العصر، أسأنا التكوين بالغياب المستفز للمراكز الحاملة للصفة وبالإعتماد على أشباه المؤطرين والمربين وبإبداء البخل في رصد الإمكانيات المادية للفئات السنية، فكانت النتيجة ما نشاهده اليوم في البطولة المسماة تجاوزا البطولة الإحترافية من مستويات فنية متدنية ومضامين تكتيكية فارغة، وكانت النتيجة المفزعة أكثر هو أن كرة القدم الوطنية فقدت بالتدريج هويتها.
ومع هذا الإقرار بضعف ما تطرحه الأندية من لاعبين والذي يفسره عزوف أندية أوروبا وحتى الخليج العربي عن إستيراد المنتوج الوطني وهي التي كانت زبونا دائما لنا، نجد من يصر على الدعوة بضرورة الإعتماد على لاعبي البطولة الإحترافية في المنتخبات الوطنية تأسيسا على أوهام لا يقبل بها العقل، فأي فائدة ترجى من لاعب فاقد للقدرة على اللعب في المستوى العالي بسبب معطلات فنية وتشوهات تكتيكية وإن كان له من الحوافز الذهنية ما نبالغ في تصويره للناس؟
لا أريد إقامة الدلائل على هذه الحقيقة المنطقية لا الصادمة بما أصبح اليوم يباعدنا من مسافات عن كرة القدم الإفريقية لأنها معروفة للجميع، ولكنني مصر على ضرورة التعاطي مع هذه الحقيقة بمقاربة علمية لا حضور فيها للفولكلور ولا للمكابرة، والتعاطي معها يفرض أن تكون هناك دعوة من قبل الإدارة التقنية الوطنية المكلفة بالتكوين إلى ورش حواري يضم كل المرجعيات التقنية الوطنية ويبحث هذا الذي يجب أن نسميه أزمة التكوين القاعدي في المغرب، ورش يطرح كل الأسئلة المرتبطة بهذا الإجتفاف وبهذا الفقدان المتواتر للهوية، ويخرج فعليا من المختبرات بمقاربة جديدة للتكوين بلغة وبهوية مغربيتين وباستحضار كامل لواقع التكوين العلمي بأوروبا.
لا خلاف على أن الحماس الذي يتملك الجامعة الحالية برئاسة البراغماتي فوزي لقجع لرأب الصدع المادي والبنيوي والهيكلي الذي يصيب كرة القدم الوطنية، يذهب بها إلى فتح كل المغاور لترك بصمة، ولكنني مع التشديد على مواصلة مأسسة الجامعة وكرة القدم الوطنية بشكل عام، مصر على ضرورة الإنكباب من الآن على الورش التقني ومحاولة علاج كل هذه الأورام التي يشكو منها التكوين بتوظيف كل الكفاءات التقنية الوطنية التي أصبح بعضها عاطلا عن العمل كدليل على إفلاس المنظومة الفنية، وبرصد ما يلزم من إمكانات مادية، لأن فوزي لقجع وفريق العمل الجامعي سيسأل بعد عشر سنوات عن الذي يزرعونه اليوم، فإن إجتهدوا في إطلاق منظومة جديدة للتكوين سيكون لهم أجر الإجتهاد وسيرحمهم العباد.