هي غارة أخرى يشنها الموت على الأضلع وحنايا القلب، فيوشك أن ينال منهما لولا أن الإيمان بقضاء الله وقدره، يغيثنا ويساعدنا على تحمل فداحة المصاب وجلال الفقد، فمن غيبه الموت في صباح ذاك السبت الحزين ومن واريناه الثرى بأعين تفيض من الدمع، ومن أيقنا بأنه لا المكان ولا الفضاء سيعيد صوته المجلجل، ومن تبكيه كرة القدم الوطنية بحرقة ما بعدها حرقة، هو الإطار الوطني التقني والتربوي والإنساني سعيد الخيدر الذي شكل على مدار ثلاثة عقود فارسا من فرسان التأطير والتربية والتكوين.
زلزلني الخبر وهو يأتيني محمولا على نبرات حزينة، لا أذكر أنني إستوعبته ولا قبلته ولا شعرت حتى بالإعصار الذي ضرب الضلوع وقتها، فقد كنت مغيبا من فرط الصدمة، فمن غيبه الموت على حين غرة ومن أسلم الروح لبارئها كان لي صديقا يعرف المعني القدسي للصداقة، وكان لي أخا لم تلده لي أمي، وكان لي علامة فارقة في رحلة الحياة المهنية، فكيف لا يصعقني خبر الوفاة، وكيف لا يصدمني خبر الرحيل، وكيف لا تكون فاجعة أن تفقد كرة القدم الوطنية في هذا الظرف بالذات رجلا متخلقا بخلق الإسلام وإطارا تقنيا متشبعا بأخلاقيات المهنة ومربيا لا يحيد عن السلوك القويم ومغربيا ناطقا بنخوة وكبرياء المغاربة ومواطنا ما بحث عن شيء في حياته إلا عن خدمة وطنه من أي موقع تواجد فيه.
في السنوات الأخيرة ألهتني الإلتزامات المهنية عنه قليلا، فلم نعد نرى بعضنا إلا لماما ولن نعد نتهاتف إلا لماما، نحن من كنا نلتقي ونتواصل قبل سنوات بشكل مسترسل، وكنت أشعر حيال سعيد الخيدر بتأنيب ضمير على تقصير وقع من طرفي كلما أبصرت رقمه يرن علي في هاتفي، كان الرجل يبادر دوما إلى تحريري من عقدة الذنب، ليقول لي أنه مدرك جيدا لحجم إنشغالاتي وأنه لا يتوقف عن التفكير في شخصي، وما إلى ذلك من كلام صادق يصدر عن قلب محب للناس ومقدر لمعنى الصداقة ومتحل بالعديد من الخصال الكريمة، العفو عند المقدرة والصفح عن السهو وحب الخير للناس.
أحب دائما أن أتكلم عن سعيد الخيدر الإنسان الذي أبدع بإلهام من خالقه في التعبير لكل الناس عن أخلاقه العالية وعن معدنه النفيس، ونجح لأبعد حد في الدفاع بضراوة عن كل هذه الأخلاق الطيبة في محيط رياضي مليء بالعداوات المفتعلة والضرب تحت الحزام ونكران الجميل ونصب المكائد، كان سعيد الخيدر رحمة الله عليه يعرف جيدا أن كرة القدم بحر تتلاطم فيه الأمواج فتصرف البعض عن قول الحق وعن الإحسان للناس وعن الإخلاص لمهنة التدريب والتأطير، وما رأيته ولا سمعته يوما يخوض مع الخائضين في نشر الفتن وتأليب الناس، كان يقف كالجبل ليردد صدى ما بداخله من لوعة ومن شعور بالإجحاف، ولا يستجدي من ذلك شفقة ولكنه يسأل مصلحة عامة، فقد كان باستمرار لسان حال المدربين المغاربة يجهر بما يكابر البعض في النطق به.
يتعبني لحد الجرح الذي يدمي القلب، أن أقلب ما تركته لي السنوات الثلاثون التي عرفت فيها المرحوم سعيد الخيدر صديقا وأخا وحاميا للظهر، فمع كل حكاية يبرز معدن الرجل وإنسانية الرجل وشهامة الرجل، وأفخر أيما إفتخار أنه إختارني بالذات لأكون له على مدار ثلاثة عقود العقل الذي يستمع لنجواه ولطموحه ولأناته أيضا، فما كان يقدم على خطوة في مسيره المهني الألمعي والنقي إلا واستشارني، ليس محاباة ولا طمعا في ضوء إعلامي، ولكن يقينا منه أنني كنت والله يشهد على ذلك صادقا معه لأبعد حد، فما جمعني أنا وسعيد أكبر من أن أصفه وأكبر من أن يختزل في بضع كلمات وأكبر من أن تغيب عني ذكرياته وكلماته وصدقه وفروسيته كما غيبه الموت عني وعن حرمه وعن أنجاله وعن كل من أحب فيه النخوة والصدق والمروءة.
إسعد بلقاء ربك أخي سعيد الخيدر، فما كان في حياتك من تقوى وإيمان وغيرة ومروءة وعزة نفس ونضال مستميث للإنتصار للقيم الرفيعة، سيطيب لك المثوى وسيعظم لك الجزاء عند من لا تضيع ودائعه، نودعك جسدا أما الروح فستظل معنا تذكرنا بك ما أحيانا الله من بعدك.
نم قرير العين سعيد، فقد أديت الرسالة وقدرت الأمانة وحفظت العهد وتركت فينا إرثا إنسانيا كبيرا.