غالبا ما أجدني منجذبا لتصريحات جوزي مورينيو المدرب الحالي لريال مدريد، فهي تجمع بين الشقاوة والنباهة والقدرة الغريبة على تحريك لمياه الآسنة، فالرجل منذ عرفته وهو يمثل للإعلام بمختلف أجناسه وهوياته مادة دسمة، إنه بفكره وبشخصهوبفلسفته منتوج فكري وفلسفي ورياضي لا أستطيع أن أثمنه.
غير أنه مدرب ألقاب، فهو مدرب متقف بقدرات خارقة على قراءة محيطه الكروي وبمهارة غير مسبوقة في أن يضع نفسه حينا على عقارب المحيط الذي يأتي إليه أو في أن يضع المحيط برمته على مقاسات فكره..
مدربا لتشيلسي الأنجليزي لم تظهر حذاقة جوزي مورينيو فقط في أنه أسس لزمن جديد للبلوز، وفتح كل الشرفات الموصدة وكنس الخزائن من غيار كثيف، ولكن ظهرت أيضا براعته في أنه جذب كل المدربين الآخزين، السير أليكس فيرغسون والجانتلمان أرسين فينغير إلى جزيرته، فاستفز ملكاتهما في صياغة الكثير من النقائض، ومورينيو الذي وصفه فيرغسون بالمغرور وفينغير بالمتهور، تحسرت كل أنجلترا يوم غادرها ليصبح مدربا لإنتر ميلانو الإيطالي.. لقد فقدوا فيه تلك الوصفة الساحرة، تلك الشعلة المتخفية تحت الرماد، ذاك البدر الذي يمزق عثمة الليلة الظلماء.
ويوم أعطى مورينيو بأدوات فكرية وفنية وتكتيكية مبتكرة المجد الأوروبي الجديد لأنتير ميلان الإيطالي، وجاء ذلك متزامنا مع محنة إستشعرها ريال مدريد فريق القرن لوضع قبضة يده على الملاحم الكروية الكبيرة، تنبأ الكثيرون بأن يجد جوزي مورينيو نفسه مدربا لريال مدريد، حاكما لإمارة كروية غالت في ولائها للفكر التجاري، فما كان هناك من مدرب يستطيع أن يروض هذه الريال غير مورينيو.
وجاء مورينيو إلى الريال في صفقة فلكية وتوقعت منه حِكَمًا يصوغها مع كل يوم يمضيه في معقل هذا الفريق الأنطولوجي، وكانت المباراة الأولى للريال بجزيرة مايوركا والتي إنتهت إلى تعادل سلبي بمضمون تكتيكي وفني متذبذب مناسبة فعلية لأن يبعث مورينيو برسالة إلى كل جماهير الريال، ومن خلالها إلى الذين يتوهمون أنه ساحر في زمن لا يفلح فيه السحرة، أو أنه مارد يملك القدرة على تطويع الأشياء.
قال مورينيو: «أنا لست هاري بوتر، ذاك الرجل الساحر الذي يستطيع أن يفعل في خيالات أصحابه ما يستطيعه، السحر حكاية وكرة القدم حقيقة.
ولأن مورينيو صاحب فلسفة وصاحب فكر وصاحب أسلوب فقد إختار الشيء الصعب، لقد إختار أن يجعل الفريق كما يريده هو لا كما أراده غيره، بدليل أنه أحدث ثورة نمطية على عمق الأداء وعلى الوظائف وعلى الأدوار، وبالطبع هذا الإنقلاب النوعي الذي سيؤسس لشخصية جديدة للريال كما يخطط لها مورينيو يحتاج إلى وقت قد يطول أو يقصر بحسب ردات فعل اللاعبين، لذلك فإن من التجني أن نحكم على مورينيو من خلال مباراة مايوركا.
وقد كان مورينيو أمينا مع نفسه عندما قال: « الأمر السهل أن أحتفظ بنفس فريق الموسم الماضي وأن نلعب بذات الأسلوب، حثما كنا سنفوز في مايوركا، وقد نفوز في غيرها، ولكن هل سأحصل فعلا على الفريق الذي أريده وتريده كل هذه الإلتزامات التي نقبل عليها..لا أظن ذلك..».
وهذه هي أولى سمات فكر وفلسفة مورينيو والتي يجب أن يتعلم بعضها مدربونا، بخاصة من لهم القدرة والأهلية لأن يكونوا فكرا كرويا قائما بذاته، أن لا يفعل ما يتعارض مع فلسفته، أن لا يقبل بالحلول السهلة، وأن لا يحتمي بالأقنعة ليدرأ عنه خطر المفاجأة، فالمدرب الذي يقبل في العادة بالحلول السهلة يؤدي ثمن ذلك من جسارته وجرأته وشجاعته، والمدرب الذي يكره على التنازلات كبر حجمها أو صغر يضع فكره وشخصه فوق السكة ليدهسه قطار الحياة، والمدرب الذي يقايض إحترافيته ومنهجيته وفلسفة عمله بما عداهم إنما يحضر لنفسه قبرا يدفن فيه وهو على قيد الحياة.
ولأن مورينيو يعرف بذكائه وبعمقه أنه بصدد عجنة جديدة، وأن كثيرا من لاعبيه بخاصة منهم الذين جاؤوا من ثقافات كروية أخرى يحتاجون إلى بعض الوقت لينخرطوا ويتكيفوا ويستأنسوا بالمناخ الكروي الجديد، فإنه لا يعض أبدا أنامله ندما على ضياع نقطتين بمايوركا، بينما كسب الغريم ثلاثا وهو يهزم راسينغ سانتاندير بالثلاثية، إنه يعرف أن لكل ثورة ضرائب، والأفضل أن يخسر الفريق نقطتين أو أكثر ويكسب مساحات شاسعة من الثقة والمناعة يبني فيها مجده الكروي الجديد..
ولأنني أعرف جيدا غوارديولا من أي طينة هو وبأي خلطة معجون هو، فإنني أتوقع أن ترتقي المنافسة بين الريال وبرشلونة إلى أقصى مداها برغم أن برشلونة يوجد اليوم بفعل إستقراره وقوة رصيده البشري والتقني متقدما بمسافة كبيرة عن الريال، وفي ذلك إيذان بدخولنا موسما كرويا عنوانه الإثارة والمتعة والإحتفال برقي الأداء وبنبل المشاعر، ومضمونه صراع الجبابرة بين غوارديولا ومورينيو..
إضافة تعليق جديد