قصة عز الدين أوناحي، وهو يتوهج في ملاعب كرة القدم لا تشبه قصص الكثيرين.. وحتى بدايته مع منتحب بلاده تختلف كليا عن كل البدايات العادية.. إنه واحد من اللاعبين القلائل الذين إنضموا لصفوف منتخبات بلدانهم في بطولة قارية لا وزنها الدولي الكبير.. وكانت تكفيه 3 مباريات فقط لكسب ثقة مدربه ويتحول إلى لاعب أساسي.
ولم تقف قصته عند هذا الحد.. فقد رمى به مدرب الفريق الوطني في مباراة حاسمة ومصيرية تتقاذفها أمواج الإنتقادات وتطوقها الكثير من الإنتظارات.. لكنه كان في الموعد.. وقلب نظرة الجمهور إليه رأسا على عقب.. ففي مباراة الحسم لم يكن ذلك اللاعب الهادئ، الوديع والخجول.. ولكنه تحول إلى مارد متوهج لا يرحم خصومه أبدا!
تذمر وسخط!
لم يكد وحيد حليلودزيتش يكشف عن التشكيلة التي واجه بها منتخب الكونغو الديمقراطية في إياب الملحق المؤهل لمونديال "قطر 2022" حتى ثار الكثير من المغاربة وأعلنوا سخطهم العارم، وحدث هرج ومرج، وانهالت عبارات الإستنكار ضد التشكيلة التي أعلنها وحيد.. وكان السؤال الذي يلخص كل التذمر السائد آنداك.. هو كيف سيفوز أسود الأطلس في مباراة مصيرية وحاسمة بتشكيلة مبهمة وغامضة.. ودار السؤال أساسا حول عز الدين أوناحي بالضبط الذي يظهر أساسيا لأول مرة في صفوف المنتخب المغربي.
وناقش الكثير من المغاربة، عبر الأثير وعبر مختلف مواقع التواصل الإجتماعي، "مورفولوجية" أوناحي.. وشكله وتاريخه وعطاؤه.. وتساءل كثيرون من هذا الفتى النحيف والمغمور الذي سيحمل مصير أمة بين يديه؟ وشكك الكثير منهم أيضا في الإضافة التي يمكنه أن يقدمها للفريق الوطني في مباراة مصيرية، خصوصا أنه لم يظهر خلال المباريات الثلاث التي خاضها مع أسود الأطلس في نهائيات كأس أمم إفريقيا بالكامرون قبل هذه المباراة المصيرية بقرابة 3 أشهر ما يوحي بأنه سيكون اللاعب الحاسم الذي يمكن الرهان عليه.
"أتركوا الأمر علي"
ودخل أواناحي إياب الملحق المؤهل للمونديال بخطى الواثق من نفسه.. وبدت عليه علامات الثقة والإرتياح وهو يخضع لعملية التسخين استعدادا لانطلاق المباراة، كانت المهمة بالنسبة إليه سهلة للغاية، وكأنه إطَّلع على الغيب.. وقرأ تفاصيل هذه المواجهة التي كان فيها السيناريو محبوكا على مقاصه! فلن يكون هناك من يستحق أن يقوم بدور البطل في هذا السيناريو سواه!
كان أوناحي وهو يقوم بعملية الإحماء يسمع هتافات الجماهير في المركب الرياضي محمد الخامس بالدار البيضاء، وقد بحت حناجيرها من صيحات الدعم والتشجيع، قبل حتى أن تنطلق المباراة.. كان ينظر ويرى ويسمع في إبهار تام، وكانت لحظات الذهول تسرقه أحيانا من هول المشهد وتأخذه بعيدا ليدخل في حديث مع نفسه وكأنما يتحدث للمغاربة ويقول لهم: "لا تشغلوا بالكم بثقل المباراة، سأريحكم.. أتركوا الأمر علي"!
ومن دون أن يدرك أحد، بمن فيهم خيلوزديتش نفسه الذي راهن عليه، من أين جاء أوناحي بكل الشجاعة التي سكنته، وكل السخاء الذي كان عليه.. كان خلال المباراة يتواجد في كل المساحات وكأنه يتنفس بألف رئة.. كان الموزع والمنسق وصاحب البناء.. والتمرير والتسديد.. وحتى إيقاع المباراة كثيرا ما كان في قبضة يده، فهو من كان يرفعه تارة ويخفضه تارة أخرى.. لذلك لا عجب إن سجل هدفين.. ولا عجب أيضا إن توج أفضل لاعب في المباراة بلا منازع.
أما الهدف الأول الذي سجله، فتلك قصة أخرى.. فقد تمرد أوناحي على كل قوانين الفيزياء والجاذبية والهندسة، وسدد بباطن قدمه اليمنى كرة لولبية بقوة ودقة متناهية يصعب جدا أن يصدها أي حارس.. هدف أحدث زلزالا في مدرجات الملعب التي اهتزت بقوة.. ليس فقط لقيمته ولكن أيضا لروعته وجماليته.
كسب الرهان
وكان الهدف بالنسبة لأوناحي الحطب الذي رمى به في موقد الحماس لديه ليشتعل أكثر.. فتحول اللاعب إلى "مارد" مخيف في الملعب لم يعرفه حتى مدربه في نادي أونجي الفرنسي جيرالد باتيكل! فسجل الهدف الثاني في المباراة، وسجل إضافة إلى الهدفين حضورا قويا ومتميزا حير الكونغوليين الذي اعترفوا أنه صحاب الإنجاز الكبير في المباراة.. إذ بالقدر الذي كان صانع الفوز والتفوق للأسود بالقدر الذي كان مربك ومحطم الفهود.
هذا هو أوناحي.. اللاعب الخجول والهادئ.. اللاعب الذي لا يمكنه أن يعطيك اللإنطباع بأنه يستطيع أن يحرك ساكنا في الملعب.
وتوج أوناحي نفسه بطلا للمباراة، في مشهد لم يصدقه كثيرون.. واتضح أنه كان واحدا من الرهانات الناذرة التي كسبها وحيد خليلودزيتش منذ توليه قيادة المنتخب المغربي.. واتضح أيضا أن وحيد تحدى نفسه وتحدى الآخرين مرتين، الأول أنه أصر خلال إياب ملحق المونديال على إكمال ما بدأه خلال مباراة الذهاب وهو اللعب بشاكلة 3 – 5 – 2.. والثاني أنه اعتمد في واحد من خيارات "المجازفة" على لاعب إسمه عز الدين أوناحي.
وكان أوناحي في الموعد، وعوض أن ينجز مهمة واحدة فقط، أنجز مهمتين: الأولى أنه قاد المنتخب المغربي لنهائيات كأس العالم "قطر 2022"، بتسجيله لهدفين، والثانية أنه وضع المدرب وحيد خليلودزيتش في منطقة الأمان! وأظهر أوناحي أنه فعلا كان رهانا رابحا ومكسبا كبيرا بكل المقاييس.
مغمور بوزن كبير
وأوناحي غادر المغرب صغيرا وبالكاد كان يتحسس طريقه في الملاعب بعدما رضع من ثدي نادي الرجاء البيضاوي، قبل أن يقيس خطواته الأولى ويتعلم المزيد من أبجدية اللعبة في أكاديمية محمد السادس لكرة القدم.. ولم يكد يبلغ 17 عاما من العمر حتى "اقتنصه" نادي ستراسبورغ الفرنسي بعدما حدس إلى أنه سيكون له شأن كبير واستشعر فيه اللاعب الذي يمكنه أن يفجر مواهبه في أي وقت ويثير الكثير من الإعجاب.
بعد موسمين إثنين تقريبا مع ستراسبورغ إنتقل أوناحي لنادي أفرانش من أندية القسم الوطني في فرنسا، لكنه لم يعمر طويلا هناك بعدما لعب له 28 مباراة سجل خلالها 5 أهداف.. لكن نادي أونجي فطن إلى أن مصلحته تقضي بأن يضم بين صفوفه لاعب مغمور في إسمه وسمعته، لكنه صاحب وزن كبير في ثقله وقيمته.. ومع أونجي إكتشف أوناحي أن اللعب لفريق مثل أفرانش لا يلائمه ولا يوازي طموحاته.
وبقية القصة تعرفونها.. فقد بدأت معالم التوهج تتضح في مبارياته مع أونجي خلال بداية الموسم الحالي، وهو ما دفع بخليلودزيتش ليراهن عليه.. قبل أن تتفجر أكثر في إياب الملحق المؤهل لنهائيات كأس العالم "قطر 2022" والذي كان أوناحي بطلا له من دون منازع.