الجائحة لم تنسنا قراءنا
الخميس 28 ماي 2020 - 18:16لابد وأنكم ستلاحظون أن جريدة «المنتخب» تواصل إلى الآن صدورها بالطبعة الإلكترونية، برغم أن السيد وزير الثقافة والشباب والرياضة والمسؤول عن قطاع الإتصال، كان قد أنبأ الرأي العام الوطني خلال نهاية الأسبوع المنقضي بعودة الصحف الوطنية إلى استصدار نسخها الورقية، وأعقبه بقرار مواكب يعيد فتح أكشاك بيع الصحف، بعد أن طالها الإغلاق لأزيد من شهرين بسبب جائحة كوفيد 19.
لم تر مؤسسة «المنتخب» حاجة للعودة للإصدار الورقي والحجر الصحي ببلادنا لن تنتهي فترته الثالثة إلا في العاشر من شهر يونيو القادم، فالحاجة إلى استئناف بيع الصحيفة لتحريك مورد مالي توقف تماما كحال كل الموارد المالية الأخرى الآتية من الإعلانات والإشتراكات، لم تكن على نفس الدرجة من أهمية وقيمة ما نذرت «المنتخب» نفسها من أجله منذ تأسيسها قبل 34 سنة وأبدا لم تساوم فيه، خدمة قرائها باعتبارهم رأسمالها القوي، والقارئ الذي لا يتمتع بصلاحية التجول في زمن الحجر الصحي، لا يمكنه أن يجد طريقا مفتوحة نحو الأكشاك ليقتني نسخة من جريدته.. لذلك إرتأينا بعد تفكير عميق أن نواصل الإصدار الإلكتروني ولا نحرم الآلاف من قرائنا الذين يقبلون على إثنين وخميس بنهم كبير على النسخة الإلكترونية ويحققون في ذلك مقروئية عالية، حتى لو زاد ذلك من معاناتنا المالية، والله وحده يعلم بأننا احتجنا إلى شبه معجزة لكي لا ننهار لشدتها وقوتها.
إن هذا الرباط المقدس بين «المنتخب» وبين قرائها من الأوفياء الذين نشعر بنبضهم ونستظل بشغفهم، بل وننحت في الصخر ونحفر الحجر لكي لا نهدر ذرة واحدة من ثقتهم، ذاك الرباط هو ما جعلنا لا نختفي وسط زوابع الجائحة، ولا ندفن رؤوسنا في رمل الغياب بسبب أننا ملتصقون وملتحمون بالحركة الرياضية، وهذا الحركة تعطلت بالكامل عندما توقفت المباريات وأرخيت الستارة على الملاعب وانطفأت أضواؤها ومتنفساتها، على العكس من ذلك قاومنا جفاف المشهد الرياضي ومشينا بأقدام عارية فوق ملاعب متصحرة وملتهبة ولم نصدر صوتا للأنين الذي بداخلنا، وكل هذا من أجل قارئ استودعنا لعقود من الزمن عقله وفكره، وحاشى لله أن نتاجر في ذاك العقل أو أن نخون ثقة ذاك الفكر..
ولعل الذين أطلعوا على كل الإصدارات الإلكترونية ل«المنتخب»، قد وقفوا على إرادة الجلمود التي وهبنا الله إياها، فما فتتها الجائحة وما قوضها المشهد الرياضي القاحل، بدلا من 12 صفحة أصدرنا أعدادا من 14 صفحة، وحيث ظن البعض أننا لا نملك زادا للأيام العجاف وتوهم البعض الثاني أن الضرع قد جف، وشهر البعض الثالث بحدوث حالة من العجز المفضي إلى التواري والغياب، تحولت «المنتخب» بمنسوب الإبداع الجماعي الذي يفيض ويخصب في الأيام الصعبة، إلى حديقة مزهرة، فتفتقت صفحاتها ملفات جريئة وحوارات حصرية ومتابعات دقيقة لكل حالات الوجع ولمحات وومضات الأمل في ليل الجائحة الطويل..
أبدا لم تنصب «المنتخب» برغم ما واجهته من محن وبرغم ما طالها من غارات وجائحات، حائطا للمبكى والتشكي والتندر، ولا أدمنت الجلوس في ناصيات شارع الألم لتستجدي العطف.. في عقودها الثلاثة عاشت بأنفة واعتزاز وشموخ هو من جنس وفصيل شموخ هذا البلد وأبناء هذا الوطن، ولعل أدبيات جائحة كوفيد ستحكي لمن سيأتون بعد جيلنا، كيف أن صحافة هذا الوطن قاومت الإنكسار وآثرت الوقوف في خط المواجهة بدل الإختباء في الكهوف التي يهرول نحوها المتخلفون عن معركة الحياة.
بالتأكيد ستعود «المنتخب» إلى طبعتها الورقية عندما تتوافر الظروف الطبيعية التي تسمح لقرائنا بأن يقصدوا الأكشاك الآمنة، بلا خوف ولا وجل، وعندما نوقن جميعا أن المحيط خلا خلوا تاما من كل ما يهدد سلامة وأمن وصحة الناس، ومع تلك العودة المرتقبة برفقة الصحف الورقية المواطنة، سيكون لزاما أن تعمل الأجهزة الوصية على قطاع الصحافة، على جبر الضرر المادي الكبير الذي أصاب المقاولات الصحفية قبل الجائحة واستفحل منذ جثمت هذه الجائحة على الصدور لأزيد من شهرين ونصف، فاستنزفت ما بقي في الرصيد من مدخرات ومن صبر..
وطبعا لن تفاخر «المنتخب» بأنها ظلت وفية لتعهداتها المالية مع الأطقم العاملة معها، من محررين وتقنيين وإداريين، ولم تنقص من مستحقاتهم سنتيما واحدا، فهذا الذي فعلته هو من صميم تقاليدها الإنسانية وأعرافها المهنية، إلا أنها تحتاج اليوم لمن يستمع بعمق إليها وإلى الصحافة الورقية في هذا الوطن.. لمن يعطيها اليقين على أن هذه الصحافة الورقية لم توضع في جحر مظلم من دون أن يسأل عنها أحد، وكأن الحكم قد صدر عليها بالموت الزؤام..