**أسمى صور الوطنية وروح التعاون والأخوة بين المغاربة، تلك التي شاهدتها هنا في روسيا وتحديدا في موسكو، حيث تآلف الصغير والكبير، الغني والفقير، السياسي والمنتخِب، الفنان والمُعجب، النجم والمشجع، ليخلقوا لوحة مغربية غاية في الجمال والإبداع والدروس.
المغاربة حينما يتفقون على شيء يتقنوه إلى حد الكمال، وحينما يتفقون على عدم الإتفاق يتطاحنون ويتضاربون على أتفه الأسباب، ومع الفريق الوطني كان الإجماع على الوقوف في صف واحد، بقميص واحد وصوت واحد، عاش الوطن ويحيا أسود الأطلس.
ما حدث بمدرجات ملعب لوجنيكي في مباراة المغرب والبرتغال شيء نادر جدا إن لم يكن غير مسبوق، فأزيد من 40 ألف متفرج مغربي حضروا المباراة وزلزلوا العاصمة من تحت أقدام الروس، وصنعوا ملحمة تاريخية تستحق أن تدخل أجندة الفيفا وسجلاتها القياسية في عدد الجماهير المتنقلة في تاريخ دورات كأس العالم.
معاقون، رضع، أطفال، شيوخ، الكل إجتمع في نقطة واحدة وفي توقيت واحد، ليزينوا العرس ويجعلوه قمة في الروعة والأناقة بالألوان الحمراء والخضراء، تحت أنظار رئيس الفيفا الحالي إينفانتينو والرئيس المخلوع بلاتير وسامي الشخصيات الرياضية والسياسية من مختلف بقاع المعمور.
مشهدان إستفزا إنتباهي أكثر وأثارا قشعريرة رهيبة في جسمي، الأول لحظة عزف النشيد الوطني وكيف إهتز ملعب لوجنيكي وكيف تم إنشاده من 40 ألف حنجرة مغربية، والثاني بعد إطلاق الحكم الأمريكي المغضوب عليه مارك جيجير صافرة نهاية المعركة بإقصاء الأسود، وردة فعل الجماهير المجنونة بالتصفيق والتنويه والهتاف بأسماء اللاعبين.
لم أصدق أن المغاربة هم من يصفقون ويرفعون الرايات ويطلبون من اللاعبين رفع الرؤوس والإفتخار، لأن فئة كبيرة منهم إعتادت إنتقاذ المنتخب المغربي منتصرا أو منهزما، والتفوه بأقسى كلمات السب والشتم الجارحة، بغض النظر عن الأداء، لكنني تفاجأت أن العقلية على الأقل في هذه المسابقة العالمية تغيرت، فأصبحت الروح الرياضية سامية، ومظاهر التشجيع والإحتفال تطورت، وأمست تمتد إلى ما بعد الهزائم في الساحات والشوارع دون شغب أو فوضى.
الأسود أقنعوا وأمتعوا ونالوا إحترام العالم، والجمهور كان نموذجيا ورهيبا وأيقظ الوطنية في النفوس لتعتز بالإنتماء وتفخر بالبلاد، هذه الوطنية الجياشة والمؤثرة التي لا يجب أن تتوقف عند تظاهرة كروية في بلدان ومدن أجنبية، وإنما يجب نقلها وإعادة تثبيتها وإحيائها لدى الشعب المغربي داخل المملكة، بالممارسة الحقيقة والشفافية والمساعدة والتآلف، وخدمة الوطن كل من موقعه دون حقد ولا كراهية ولا تطاحنات إجتماعية وسياسية ورياضية.
**بعدما أضعنا صلاة الجمعة الأولى التي تزامنت مع مباراة المغرب ضد إيران بسان بطرسبورغ، حرصنا على عدم إهدار الجمعة الثانية بموسكو، وبحثنا بإصرار على مسجد المدينة الكبير الذي يجتمع فيه مسلمو موسكو لتأدية المناسك الدينية.
توجهنا إلى المسجد التُحفة والرائع هندسيا عبر الميترو نحو الشمال الشرقي للعاصمة، وتفاجآنا بإغلاق جميع الطرق والمسالك المؤدية إليه عبر السيارة، لنمضي مشيا على الأقدام مسافة لا بأس بها ضمن موكب بشري كبير جدا من مختلف الجنسيات، قبل الوصول إلى المسجد وإجتياز حواجز التفتيش والمراقبة الأمنية في الأبواب الرسمية المؤدية إليه.
عدة ملاحظات تم تسجيلها أولها أن بعض صفوف المصلين كانت تتجاوز المسجد من الأمام وبالتالي تأدية الصلاة ومن خلفها الإمام والمحراب، ثانيا كثرة الحركة والحديث أثناء خطبة الجمعة التي كان يلقيها الخطيب باللغة الروسية مع الإستشهاد بالآيات القرآنية باللغة العربية، إذ يجلس الكثير من المصلين شاردين وغير مهتمين بما يُقال، فيتصفحون الأنترنيت على الهواتف ويأخذون الصور ويتكلمون، والحديث النبوي "ومن لغا فلا جمعة له" غير معمول به هنا.
لكن أكثر ما أثار التعجب والإستغراب هو قيام جل المصلين بتأدية عدة ركعات بين الأذان الوحيد والخطبة، ومثله كان بعد صلاة الجمعة التي لم تختلف وكانت ركعتين خفيفتين، حيث نهض أغلبية الحاضرين وشرعوا في الركوع والسجود لأزيد من 6 مرات مباشرة بعد التسليم في صلاة الجمعة، أمام إندهاش وتعجب من بعض المصلين المغاربة والتونسيين من زوار المونديال.
طقوسهم الدينية غريبة ومختلفة عنا، وبعض مما هو مكروه وممنوع في مذهبنا المالكي جائز عندهم، لكن هذا الإختلاف لا يفسد حلاوة الصلاة في موسكو ومعاينة مشهد عشرات الآلاف من المصلين من مختلف أنحاء العالم، جنبا إلى جنب يؤدون الشعائر في قلب دولة عظمى شعارها التنوع العرقي والديني والثقافي، والأمن والسلام بعد الحروب وتطاحنات الماضي.