أردت التخلي عن القبعة المهنية لبضع ساعات وقصدت ملعب لوجنيكي بموسكو لمشاهدة مباراة ألمانيا ضد المكسيك كمتفرج، فسلكت جميع الممرات التي يسلكها الجمهور من مواصلات نقل وساحات إلى غاية أبواب الملعب التحفة.

في الميترو كما في الشوارع شيء أشبه ب"الكارنفال"، جميع الجنسيات والألوان تتناثر لترسم لوحة الإحتفال، الكل ذاهب إلى القلعة الرياضية للزعيم السوفياتي لينين لمعاينة القمة الأوروبية اللاتينية، والوقوف على أول ظهور لأبطال العالم في رحلة الدفاع عن لقبهم.

ما يثير الفضول والتعجب أن المشجعين لا ينتمون إلى المكسيك أو ألمانيا، بل يشجعون منتخبات أخرى أو يتعاطفون مع هذا المنتخب أو ذاك، أنصار من البرازيل بالأقمصة الصفراء في طريقهم إلى الملعب، علما أن منتخب الصامبا سيلعب بعد ساعتين في روستوف ضد سويسرا، لكنهم فضلوا البقاء في موسكو ومتابعة الألمان، شأنهم شأن المئات من المتفرجين من أقصى شرق آسيا والخليج والولايات المتحدة، إلى جانب أصحاب الضيافة الروس والذين حجوا إلى مكان الحدث بالآلاف.

ADVERTISEMENTS

سهولة كبيرة لدخول منطقة لوجنيكي التي ينام على صدرها الملعب، ما بين النزول من محطة الميترو وتجاوز الحواجز الأمنية والتفتيش ودخول الملعب 5 دقائق لا غير، لم يتبق على إعلان صافرة البداية سوى القليل، والأغلبية الساحقة من الجماهير في الساحات المجاورة تحتفل وترقص مع بعض، وتحتسي وتشرب ما لذ وطاب.

ولأنني لا أتوفر على التذكرة وأحمل بطاقة الإعتماد كصحافي كان من الواجب أن أذهب إلى منصة الإعلاميين، لكنني لم أرغب في الجلوس مع الزملاء، وأردت مشاهدة المباراة بين الجماهير كمتفرج فضولي لا منتمي.

حاولت الإنسلال من أحد الأبواب فتم إكتشاف أمري وطردي، ثم جربت في الباب الثاني لكن السيناريو ذاته يتكرر، قبل أن أستنجد ببعض المكر المغربي والمهارات المقتبسة من القاموس المحلي، لأتحين فرصة التوغل ومراوغة أحد المكلفين بالمراقبة بنجاح، لأجد نفسي وسط مدرجات الجماهير الألمانية خلف المرمى.

عثرت على مكان واحد شاغر بصعوبة، جلست وعيناي تترقبان إن كان أحدهم سيأتي لأخذ المقعد الذي حجزه، لكن بعد إنطلاق المباراة ومرور ربع ساعة إطمأننت وإسترحت، وركّزت على متابعة أطوار اللقاء وما يدور بالمدرجات.

إيقاع أسرع من السرعة فوق أرضية الميدان، معركة مثيرة ومن الطراز العالمي، يبدو أنها من أفضل اللقاءات المونديالية الملعوبة لحد الساعة، سيطرة ألمانية وكفاح مكسيكي، لسعة هنا وعظة هناك، الكرة لا تتوقف والماكينات معطلة، وكبرياء الخصم اللاتيني يحميه بعناد وصمود شديد.

من حولي هدوء ألماني ومشاهدة ناضجة، القليل من الأهازيج مع رفع العلم الوطني الصغير ليرفرف في أفضل الأحوال، غالبية الألمان يشاهدون المباراة ويستمتعون وكأنهم في مسرح أو سينما، يتفاعلون مع الأحداث بهمسات بعيدا عن الصراخ أو الإنتقاذ، ورغم تلقي مرمى حارسهم نوير لهدف المكوك لوزانو إلا أنهم لم يشجبوا ولم يسبوا، بل صفقوا وطالبوا اللاعبين بالتحرك والهجوم.

صوت المكسيكيين يهز أركان الملعب، أغاني وأهازيج وهتافات "ميكسيكو..ميكسيكو" يحدث إضطرابات آنية في السمع، المشهد غاية في الروعة والجنون، خصوصا وسط مد أخضر وحضور جماهيري بلغ 78011 متفرجا.

بين الشوطين قصدت بحرية الجهة التي يجلس فيها المكسيكيون، حيث آثرت خوض الشوط الثاني من الفضول والإكتشاف بينهم، الفارق كبير والبون شاسع بين المدرجات البيضاء والخضراء، فهدوء الألمان وإتزانهم يقابله جنون وصخب وتشجيع هيستيري لمنتخب التريكولور.

الجلوس ممنوع والصمت كذلك، الهتاف ثم الهتاف بأعلى الأصوات، وترديد "لا أولا" أمر واجب، الشيء الذي يعطي للمدرجات والمباراة ككل رونقا خاصا جدا، بحناجر أزيد من 50 ألف مكسيكي حطموا كل الأرقام القياسية وكسروا كل الجدارات.

التشجيع اللاتيني لا يُقاوم، ساحر، جذاب، مغري للعيون، يستحيل أن تشاهده ولا تأخذ بعض الصور، فالواجب الوطني لدى هؤلاء يعطي الإنطباع أن كرة القدم ديانة لديهم.

إنتهت المباراة في أرضية الميدان ولم تنتهي في المدرجات، المكسيكيون في جنون ولا يصدقون أنهم أسقطوا بطل العالم، إحتفالات عظيمة وصور للروح الرياضية على الطرف الآخر، فالألمان بصدد التصفيق ورفع الرايات، وتحية لاعبي المانشافت قبل الذهاب إلى مستودع الملابس.

10 دقائق كانت كافية ليتم تفريغ الملعب بكامله، ويتجه أزيد من 70 ألف متفرج جنبا إلى جنب إلى محطات المواصلات كل حسب وجهته، لا إلتحامات ولا ملاسنات ولا شجارات، فقط تبادل التحية والتهاني والإستمتاع بحلاوة النصر.

ADVERTISEMENTS

ما شاهدت شيء لا يوصف، أسمى ما يمكن أن يطلبه الإنسان من إنسانية وثقافة كروية وروح رياضية، مع متعة مونديالية بطعم الجبنة الألمانية والذرة المكسيكية.

تمنيت وأنا عائد إلى الفندق أن أرى وأشاهد هذا في إحدى مباريات المغرب، وليس بالمغرب، لأنني على يقين بأن المستحيل قد يكون ممكنا، ومشاهدة مثل لقاء ألمانيا والمكسيك بالمغرب غير ممكن.