بالموضوعية التي بات يفرضها تعاطينا مع خرجات فريقنا الوطني وما لدغنا به من جحور التعظيم والنفخ في انتصارات كانت تتحقق في حضور الكثير من العلل والمعيقات التكتيكية، وبالنزاهة الفكرية التي تتحقق معها النفعية الكاملة ونحن نتعاطى مع الفوز الإستراتيجي الذي حققه الفريق الوطني ببرايا على منتخب هو من يقود المنتخبات الإفريقية في تصنيف الفيفا، يمكن القول أن أسود الأطلس قدموا من حيث المبدأ مؤشرات على أن هناك تحولا كبيرا في محتوى الأداء وفي التعبير عن منظومة اللعب عطفا على الممكنات الفردية، فقطعا لا يمكن الفوز بالطريقة التي شاهدناها على منتخب مثل الرأس الأخضر بمعقله وفي ظل الإكراهات الإستراتيجية التي رافقت المباراة، إلا إذا توفرت للفريق الوطني الكثير من الأسلحة النفسية والتكتيكية التي إفتقدها في الفترة الأخيرة.
سنكون ظالمين في حق هذا الفريق الوطني إن قلنا أن هيرفي رونار أحدث قطيعة كاملة مع ما أنجز على مستوى بناء الشخصية، يمكن أن يكون الرجل بما تأتى له من خبرة بالأدغال الإفريقية قد فهم ما استعصى علينا فهمه في السابق وهو يحضر الأسود لموقعة برايا بالجماعية وبالحماس وأيضا بالإصرار الذي من دونه لا يمكن لأي منتخب أن يفرض نفسه في الأدغال الإفريقية، حيث يحضر الأسود والفيلة والقروش والتماسيح بلغة الفتك والإفتراس، ويمكن أن يكون هيرفي رونار بالتعبير الفصيح عن حقائق إفريقيا التي هضمها وتفوق عليها، قد دل أسوده على أقصر الطرق لربح النزالات الفردية والجماعية، لكن من الظلم حقيقة أن نقول بأن رونار إنطلق بالفريق الوطني من نقطة الصفر.
تذكرون أنني عند قراءتي لآخر خرجة للفريق الوطني على عهد الناخب الوطني الزاكي بادو، وكانت بغينيا الإستوائية، حيث كانت الهزيمة التي حركت العديد من أسئلة القلق، قلت بأن الفريق الوطني يعيش حالة من الإحتباس التكتيكي التي لا تجعله يعبر بطلاقة عن ممكناته التقنية الكبيرة بكثير من السلاسة حتى عندما يواجه منتخبات تقل عنه كثيرا على مستوى الفرديات، وأعتقد أن هذه القناعة بأن الفريق الوطني يحتاج لمن يخلصه من حالة الإحتباس ومن جفاف الإبداع، هي ما دفع الجامعة بجرأة ومجازفة إعترضنا عليها لذاتها وللسياقات الزمنية التي تأتي فيها وليس لشيء آخر، إلى الإنفصال عن الزاكي والإرتباط بهيرفي رونار، فقد كان هناك إقتناع بأن الرجل يملك الحل لإخراج الفريق الوطني من لحظة انسداد الأفق بالتعبيرات السيكولوجية وبالمتغيرات التكتيكية.
وللأمانة وجدنا كثيرا من هذه الأشياء في مباراة برايا أمام الرأس الأخضر، فالعناصر الوطنية قدمت لأول مرة منذ زمن بعيد المقاربة التكتيكية الأنسب والأكثر تطابقا مع إمكاناتها التقنية لتدبير مباراة خارج المغرب عند مواجهة منتخب لست أنا من يقول أنه من أقوى منتخبات القارة، بل تقوله نتائجه وأرقامه منذ ثلاث سنوات عندما بدأ في اقتحام عالم الكبار.
وعند العودة لجغرافيا مباراة الرأس الأخضر ببرايا سنجد أن الفريق الوطني على غير العادة هو من كان المبادر وهو من كان المحتكر للكرة وهو من كانت قوة أدائه الجماعي وانضباط عناصره تكتيكيا سببا في تحجيم وتصغير منتخب الرأس الأخضر إلى الحد الذي لا يجد فيه إلا القليل من المساحات للمناورة ولصناعة فرصتين خطيرتين على المرمى.
كنا دائما ما نقول أن الفريق الوطني غالبا ما يغالي في احترام منافسيه كلما تعلق الأمر بمباريات يلعبها خارج المغرب، وغالبا ما يقزم ويجني على نفسه بل ويفتح على نفسه أبواب الجحيم وهو يلعب بخطوط متباعدة وبخيارات تكتيكية تمسخ شخصيته، هذه المرة إختلف الأمر، فمن كان صانعا وموجها للعب ومن كان متحكما في الإيقاع ومن كان ضاغطا ومتسيدا واستحق على ذلك نقاط الفوز هو الفريق الوطني، وما تأتى له ذلك إلا لأنه لعب بالأدوات التكتيكية التي تستلزمها مواجهة بالطقوس والسياقات والأجواء التي طبعت مباراة برايا.
قطعا ما شاهدناه في مباراة برايا أمام الرأس الأخضر، وما سنراه غدا الثلاثاء في مباراة العودة بمراكش، لا يمكن إلا أن يكون مقدمة لعمل طويل وشاق قدم هيرفي رونار عناوينه الكبرى، عمل يتأسس على إكساب شخصية الفريق الوطني قوتها ومتانتها وعمل يهدف إلى مطابقة الفريق الوطني مع ملكاته الفردية الرائعة والتي يعبر عنها كل من بوصوفة وبوفال وطنان وزياش، ليكون الفريق الوطني مع من يجب أن يكون، صفوة المنتخبات الإفريقية.
نعرف أن في كرة القدم منحنيات ومنعرجات وأياما بيضاء وأخرى سوداء، لذلك يجب أن نظل متفائلين بقدرة الفريق الوطني على أن يصبح مع هيرفي رونار الفريق الذي نتمناه، صانعا للفرجة وللأفراح، يهدي للمغاربة السعادة وليس الشقاء.