جريمة عمرها 32 سنة؟
الخميس 17 يوليوز 2014 - 13:09لم تعطني البرمجة المتأخرة نسبيا لنهائي كأس العالم بالبرازيل قياسا مع ما نحن ملزمون به ليكون عدد اليوم بين يديك أخي القارئ، الفرصة لأدون ملاحظات على السريع عن النزال / الحلم الذي قرر مصير كأس العالم في نسختها العشرين أن يكون نجمة رابعة على صدور الألمان، أم يكون قمرا ثالثا في سماء الأرجنتين، إلا أنني لا أعتبر أن من ظواهر هذا المونديال أن تكون الكرة الأرجنتينية قد عاودت الظهور لمرتبة الكبار بعد 24 سنة قضتها بعيدا عن مراتب الشرف بفضل ميسي الأسطورة التي تحاكي أسطورة قديمة هي مارادونا، ولا أن تكون الواقعية الألمانية قد جددت العهد بالكرة العالمية وعادت لتصمم الثورة الجمالية على كل ما هو نمطي أو حتى سوريالي، ولكن الظاهرة الأكبر التي أرعبت الجميع ودعت أكثر النقاد إلى التفتيش في الدفاتر والسير التكتيكية لمنع مزيد من التهاوي لما نصطلح عليه بالكرة الجميلة، كانت في السقوط الدرامي والكارثي للمنتخب البرازيلي الذي لم تقو أكتاف لاعبيه على حمل حلم شعب بأكمله في أن يقبض على النجمة العالمية السادسة ليضعها على صدره، فقد كانت الهزيمة التي تصيب بالجنون أمام منتخب ألمانيا بسباعية تاريخية إيذانا بسقوط صرح منتخب وليس صرح كرة قدم ألهمت العالم بسحر فردياتها.
هو إذا إفلاس منتخب، ما تمثل العناصر والأدوات والأصباغ التكتيكية التي تحدد ملامح بطل للعالم، وهو أيضا إفلاس رؤية ومنظور وفلسفة، وأنا مع الذين يقولون أن تطويق الأزمة المستشرية التي قد تفضي إلى مزيد من الهدر للكفاءات، لن يكون فقط بإقالة المدرب فيليبو سكولاري وتسريح لاعبين يوصفون بأنهم جالبون للعار، ولن يكون بإسقاط جامعة أو حتى وزارة وصية على الرياضة ولن يكون بتنصيب محكمة علنية لمحاكمة من تسببوا في شقاء شعب برازيلي بأكمله لم يفرغ مؤقتا صدره من وجع على ما تراه العين من محن إجتماعية ولم يكتم بداخله أصوات الإحتجاج والشجب، إلا لأنه كان يمني النفس في كأس عالمية تهب كريح باردة لتنسم الجو الموبوء، لن يكون رأب ما تصدع في الكرة البرازيلية إلا بالعودة إلى مختبرات الإدارة الفنية للجامعة البرازيلية لمعرفة أسباب هذا الذي حدث، وطبيعة هذا الذي حدث، وكيف يمكن التخلص سريعا من كل التداعيات الخطيرة لهذا الذي حدث.
قطعا لا أعفي سكولاري من مسؤولية هذا الذي حدث، فهو من خطط وهو من إختار وهو من حدد إستراتيجيا الأسلوب الذي سيتبعه منتخب البرازيل في نزاله العالمي من أجل الفوز باللقب الكوني، وهو نفسه قال أنه متحمل للمسؤولية كاملة في هذا التهاوي الغريب للصرح البرازيلي، إلا أن أخطاء سكولاري التي تخفت بالكامل قبل سنة من الآن والسيليساو يتوج بكأس القارات ضاربا في نهائي مثير الماتادور الإسباني بثلاثية نظيفة، لتتعرى بالكامل خلال المونديال المنقضي، ليست بالتأكيد أخطاء تقديرات فردية وليست أخطاء تدبير تكتيكي للمباريات من قبل سكولاري وإلا لكان زوالها مقترنا برحيل سكولاري نفسه، إنها أخطاء أرتكبت قبل 32 سنة من الآن تحديدا سنة 1982، السنة التي إستضافت خلالها إسبانيا واحدة من أجمل كؤوس العالم، فماذا حدث يومها وبعده؟
يذكر كل الذين تابعوا مونديال إسبانيا أو قرأوا عنه، أن تتويج إيطاليا بكأس العالم بفضل عبقرية مدربه إينزو بيرزوت إن كان قد إنتصر وقتها لكرة القدم الواقعية المؤسسة على البراغماتية والمباشرة، فإنه أسال الدموع وأسكن حسرة في القلوب والناس يقفون على الصورة الحزينة التي سقط بها المنتخب البرازيلي أمام إيطاليا، تحديدا لينطفئ وهج كرة قدم جميلة بعثت البهجة في النفوس، قدم أصحاب القمصان الصفر يتقدمهم الفيلسوف سقراط مقاطع كثيرة من سيمفونية كروية رائعة، فقد كان أداؤهم أشبه ما يكون بالأنهار والجداول المنسابة عنوانا للسخاء والإحتفالية، وعندما ذبحوا من الإيطاليين بسيف باولو روسي قال جميعنا أن ما ذبحت من الوريد إلى الوريد هي كرة القدم الجميلة، وقال التاريخ أن هذا الجيل الذي قاده سقراط هو أروع جيل مر على الكرة البرازيلية حتى وإن لم ينل كأس العالم.
كان الوجهان المتناقضان للعملة والذين كشف عنهما نهائي كأس العالم لسنة 1982، وجه إيطالي أضاء نوره بواقعية الأداء ووجه برازيلي إحترقت ملامحه برغم النور المنبعث من أدائه الجماعي، سببا في أن يطلب خبراء الكرة البرازيلية إجتماعا عاجلا لخلية الأزمة لبحث مسببات فشل كرة القدم الجميلة التي كان منتخب البرازيل حاملا للوائها، ولإيجاد ما يفرضه الوضع من بدائل وحلول لرأب الصدع وردم هوة باتت تفصل الكرة البرازيلية عن الكرة الأروربية، وانتهى التشريح إلى أن الكرة البرازيلية عليها أن تختار أحد الأمرين، إما أن تستمر حاملة للواء كرة القدم الجميلة والرومانسية ولا تأبه بهروب الألقاب عنها، وإما أن تقول بأن الألقاب هي خيار إسترتيجي ويكون أنذاك لزاما تعديل الموجة وإلحاق ما يلزم من تغييرات مورفولوجية وبدنية وفنية وتكتيكية على اللاعبين البرازيليين، أي الشروع في أوربة الكرة البرازيلية.
والحقيقة أن الكرة البرازيلية جنت على نفسها منذ ذلك الوقت، فما سيأتي به مدربون وناخبون وواضعو الإستراتيجيات من صيغ فنية وتكتيكية من أجل ما أصطلح عليه تهذيب وعقلنة الكرة البرازيلية، سيضعنا بالفعل أمام بداية لانطفاء السحر البرازيلي في خاماته الأصلية، فإن كان المنتخب البرازيلي قد تحصل بعد كارثة مونديال إسبانيا على كأسين للعالم، سنة 1994 بالولايات المتحدة الأمريكية وسنة 2002 بكوريا الجنوبية واليابان، فإنه حقق ذلك بفضل ثلاثة أساطير كروية هي روماريو وبيبيطو ورونالدو، وأبدا لم يحققه لأنه أورب أسلوب لعبه وحكم على سحره بالتراجع حثيثا إلى الوراء، بل إنه أدخل لاعبيه في قوالب تقنية وتكتيكية خلقها الأوروبيون لأنفسهم وانزعج منها البرازيليون لأنها ليست من طبيعة بيئتهم.
وعندما يبرع الألمان أولا في نصف نهائي تاريخي والهولنديون ثانيا في مباراة ترتيبية أتمت اللعنة على البرازيل، في إسقاط الأقنعة وكشف التحريف الذي لحق بالكرة البرازيلية، يكون ضروريا قبل أن يحاكم سكولاري وجيل اللاعبين الذين ستلاحقهم لعنة هذا المونديال، أن يحاكم من تسببوا للكرة البرازيلية في هذا التشوه الذي لن يكون بمقدور البرازيليين رفعه عن وجوههم وكرتهم إلا إذا عادوا للمنبع والأصل وما كان أساسا من صنع بيئتهم.
إلا إذا عادوا إلى كرة القدم التي ما عرفنا فيها معنى للجمال إلا معهم.